سري للغاية ..

ابتسمت المرأة وهي تنظر لي بود لم يسبق لغريب أن أعطاه لي، تأكدت أني لا أحمل أي شئ معدني ولا حتى أزرار قميصي، الذي كان يحمل اللون البنفسجي آنذاك، وأظن أنها نسيت أن تعطيني سدادات الأذن، ليست امرأة بل فتاة صغيرة وأظن أنها توقعت مني أن أغازلها ولكني خذلتها. دخلت إلى الجهاز الذى يبدو كنصف كرة تخرج منها طاولة مستطيلة، كفم إنسان يُخرج لسانه سخريةً، استلقيت بظهري فوق الطاولة، ثم سحبتني للداخل وكأنها تلتهمني.. جهاز الرنين المغناطيسي الذى أراه لأول مرة، يُصدر ذبذبات من نوع خاص، كنت أشعر بها فى رأسي، تتخلخل داخل الأعصاب والخلايا، أسمع الصوت والصدى، فالفراغ داخل رأسي واسع، ويسكنه الألم، وكنت أبحث عن هذا الشئ الغريب الذى يسكن هذا الفراغ، قال طبيبي المعالج بثقة أن هذا الجهاز الوحيد المناط به إكتشاف الخبايا التي يحملها العقل، صدقته، وصدقه عقلي، عقلي المتمرد الوحيد، كنت أشعر بأنه يحرك أشعة الرنين حسب ما يريد، وليس كما درست أن الخطوط تسير مستقيمة تخترق وتتداخل، ولكنها أبداً لا تنثني أو تتمايل..

لقد فكرت في كل شئ، وأنا أجلس على الطاولة البيضاء، قالوا أني مكثت أكثر من ثلث الساعة، ولكني شعرت بها أياماً طويلة، فكرت فى أبي الجالس بالخارج ينتظرني، فكرت فى أمي وحبيبتي الضائعة، فكرت فى مستقبلي ودراستي، فى أحلامي الضائعة، قلبي التائه وجسدي المتعب، فى سنوات الوحدة والأمل ومحاولة التأقلم، تذكرت ثورة ضائعة وشهداء مجزرة كانوا أطفالاً يحلمون مثلي، أحداث لم يمضي عليها بضع شهور، تجمعت كل الصور والروايات فى ذهني، لأكون منها صورة واحدة لم تختفي منه حتى الآن، تذكرت طفولتي، وكل التفاصيل الصغيرة التي أحملها وتراكمت عليها السنون، كل شئ بدى ناصعاً براقاً لا يخفى منه شئ..
عمل عقلي بمثالية لم أعهدها عنه، وكأن الموجات كانت تحمل مخدراً للألم، أو محفزاً من نوع خاص..

لم يختلف القيد الذي قيدت به على الجهاز عن قيد الحياة شيئاً إلا القليل، فالفرق أن قيد الجهاز تركني أفكر، ترك لعقلي إمكانية تصور الأشياء والتعمق فيها، على عكس قيد الحياة الذي أضاعني وأضاع عقلي ووصمه بالتشتت وضِيق الأفق وضَيق عليَّ مُتنفسي الوحيد وهي أحلامي، كتم الأنفاس الذى يجعل من الوطن منفى، ومن السماء الزرقاء جدران قاسية سوداء..
لم يكن الألم يشغلني، سوى ذلك الساكن في رأسي، كان يملئها بحيث لا يترك فى أمد عقلي الواسع مكاناً، يسكنه وكأنه حق مكتسب له، يتحرك بحرية ويُضيق على أفكاري الحركة، يُحجمها ويمنعها من حريتها وفضولها الغريزي..

أصوات غاضبة ساخطة فى عقلى، تدمر خلاياه، وهو بالكاد مازال قادر على الحياة، على رغم نتائج الفحص المغناطيسي التى أظهرت أن لا شئ داخل تلك التجاويف، فلم تظهر الأفكار ولا المشاعر وأختفى الألم.. عن ماذا كانت تبحث إن لم تلقى هؤلاء وخاصة الألم، إنه موجود، أنا أشعر به..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عزيزتي.. الحياة أجبرتني على السير عكس ما كنت أرغب، عكس إرادتي، هبة الله لي.. لسوف تكون الحياة خصيمتي يوم القيامة، لقد كسرت قلبي..  تعرفين ما...