عزيزتي..

لقد رفضتني بقسوة ولامبالاة، لم تكن المرة الأولى ولكنها كانت أقساهم وأشدهم سوطاً على قلبي.. لم أكن أملك الكثير فى حياتي بقدر الألم والدموع ومن ثم الضعف، الضعف الذى جعل الناس وأنتِ تنظرين إلي من علو شاهق.. كُسر قلبي المُضمد بالجراح إثر معركة وراء معركة، زحف وراء انهزام، واستسلام وراء ضربات وسهام بنيران موجهه ناحية قلبي.. لا تثريب عليكم الآن، فالزمن يهزم كل شئ، حتى الحياة، الزمن يغلب الحياة وربما الموت أيضاً، حيث يحمل وراء لوحة آلام من وقف أمامها يبتغي النسيان، أن يُنسى هو ولا أحد غيره..

أحببت الرسم صغيراً، وجدت أنه فرصة لي كي أقول شيئاً لا يستطيع أحداً قوله، ولكني لم أستمر، توقفت عن مسك الفرشاة، ولكني رغم ذلك احتفظت بالورق والأقلام، كنت أعتقد أني سأعود يوماً لأرسم، وعندما وجدت رغبة ما تحثني على رسم شيء، كنتِ أنتِ موضع اللوحة، بإبتسامة فشلت في إظهارها، كنت أريد أن أراكِ أمامي، وليستِ تجوبين ذهني فقط، وددت أن أفعل شيئاً يقتل كل ما حدث بيننا، ولكني لم أستطع، كيف يمكن أن يمزق المرء ذكرياته الجميلة؟ وإن فعل ستقتله ذكرياته السيئة إن لم يُنسيه الزمان نفسه؟

كنت أود أن أخلد ذكرياي فيكِ، أن أُنسى بمنأى عن الحياة إلا منكِ.. ولكنكِ فعلتِ مثلما فعل الجميع.. لقد كُسر آخر ضلع في صدرى ذلك الذى أراد حملكِ.

لا أستطيع أبداً أن أحملك لوم من أي جهة، أنا المُدان والجاني والمجني عليه، أنا القاضي وقلبي في قفص الإتهام.

**أتذكر صورة لا تغادر ذهني مؤخراً، امرأة جالسة أمام جدار عليه نقوش فرعونية وحروف هيروغليفية، تضع على ركبتها ورق وتمسك في يدها قلم وتنقل تلك الرسوم على الجدران إلى دفترها.. وقفت أنظر لها، ليس طويلاً، ثم نظرت من حولها لأناس يمسكون كاميرات يصورون الجدران ويصورون أنفسهم مبتهجين، وهى تجلس وكأن الكون لا يدور حولها والوقت لا يمر، والأبد واقف ينتظرها تُكمل رسمها.. تركتها، أحسست أن وقتي ذهب سدى، وأن علي القيام بأشياء لم أبدأ فيها بعد، رغم أني قضيت نفس عمري تقريباً، ومن يدري..

لا شيء يحدث من قبيل الصدفة، إنها أقدار وابتلاءات تختبر إيماننا.. فهل نصدق؟


عزيزتي..

أنا لا أستحق عفو من نوع واحد، أنا أستحق كل العفو، كله بلا استثناء، ودعيني أبدل كلمة أستحق بكلمة أريد أو أرغب، هذا القلب الذي يسكن بين أضلعي يستحق العفو، رغم أنه كان سبب كل مشاكلي، تلك التي بدأت من ضعفه الأبدي، بدأت بغصة عميقة على جانبه الأيسر، فأدركت أن هناك أشياء قادمة ستقذف فيه الألم بسهولة. لكل أرض مغتصب من نوعاً ما، خائن محتل، وكان مُحتل قلبي هذه الآلام، مواجع تتقلب بداخله، ورغم كل هذا إلا أنه يستحق أن يعفو عنه، أن يغمره لون أبيض ناصع، أن يُغسل بماء البرد، ويُطهر من كل خطاياه. الخطايا التي سكنته وتعود عليها بشكل ما، لا وجود لأسباب واضحة ولتكن عادات قديمة رسمت في خطوطه نفسها، مُعلنة أنها فيه، وباقية لأبد ما..

تقتحم جسمي قشعريرة غريبة عندما يمر شئ بقلبي، رعشة ربما تشبه أول لمسة بين حبيبين.. ولكني في الأغلب أفسرها بأنها توبة.. نعم، هذه القشعريرة توبة.. توبة من نوع خاص، تأخذني معها إلى العودة من الحلم، هذه القشعريرة تردني إلى الواقع، وإلى ندم مضاعف أحياناً وأفكر في ذلك العفو الذى سيمحو عني خطاياي ثم ينثر وجداني في الفراغ المهيب..

أريد أن لا أبقى حياً، لا أود الإستمرار على قيد الحياة، لا أعرف ماذا سأقول لله!، أتمثل وقوفي أمامه، ولكن.. ربما ليس هناك -لكن- هذه المرة.. ولسوء حظي أني هنا، ومعي إرادة ما سأحاسب عليها..

يجب عليٌٍٍَ أن أرجع وأبدأ من جديد، وهنا عندي رأي بأن حياة الإنسان لا تتجزأ.. لا ينفصل حاضره عن مستقبله، ولا تنفصل مشاعره عن ذكرياته.. إنه منذ خُلق وإلى أن يموت يبقى له نفس القلب، مهما تغير ومهما تقلب.. ولذلك وجب عليٌَ أن أدرك توبة ما، وأرجع إلى طريق ما، وأنا أوقف كل الحياة التي تتعثر وتتخبط بها خطاي..

** لم نتحدث منذ فترة طويلة، وكم اشتقت لحديثكِ.. صوتكِ ووجهكِ الكريم.. 

 مازال عندما يجلس معها يبوح بكل البساطة والحرية، رغم أنها أنثى.. كم هو صعب على الرجل أن يبوح بأشياء معينة لامرأة سواء كانت عذراء أو ثيب.. يحكي كأنه يتكلم مع نفسه..

كم قرأ عن الغرف المغلقة التي تُغلق على الرجل والمرأة، وكل كاتب حسب خياله الجامح يكتب ما يحدث وما لا يحدث وربما كتب عن أشياء لن تحدث مطلقاً.. لم يكن لديه وقائع عاشها كي يقيس عليها مدي الصدق أو الكذب الذي يحدث، وغالباً مال لتلك الروايات عن العشق والهوى لأنه أدرك حقاً أنه لم يعش كما ينبغي، بعيداً منعزلاً بلا أي قيود داخل زنزانته الأبدية التي خُلق لها.. ربما حدث ذلك..

لقد بكيت كثيراً أمام المسرحية الهزلية، وضحكت أكثر أمام جدية الحياة.. ولا أعرف كيف يجتمع الاثنين فى واحد، هل فعلاً يختفى الجنون مع العقل، والهذيان مع الجدية.. فى الغرفة المظلمة الرجل ينشد الخلود، يتمنى أن يلمس السماء حين يلمس جسدها، ولكن أفكاره تعترضه موجهة عينه نحو ما يلاقيه فى حياته، وفى تلك الشجرة التى لمسها ولم يلمس الخلود كما وجهته وساوسه، تفكر لو منعته امرأته عما أقدم عليه، كان عليها أن تحظره، وربما فعلت وهو لم ينتبه، شغلته بروحها السابحة فى محيط من السحب الشديدة البياض أو تلك الممتلئة بالسواد التى توشك على الوقوع..

استيقظ وشرب قهوته.. ثم مال برأسه لينظر نحوها كانت خاوية ومظلمة.. كيف التهمته، ولما سمح لنفسه بأن يشغل تلك الغرفة كل هذه السنين..

عزيزتي.. الحياة أجبرتني على السير عكس ما كنت أرغب، عكس إرادتي، هبة الله لي.. لسوف تكون الحياة خصيمتي يوم القيامة، لقد كسرت قلبي..  تعرفين ما...