لم أستطع الكتابة اليوم، كما أني لم أستطع القيام من مرقدي أو الخروج، أمضيت يومي أفكر فيما لو أنقلبت حياتي إلي سكون وفراغ، لو يوماً مللت من الكتب أو الكتابة، لو بقيت وحدي ولم أراكِ بجانبي فى نفس الغرفة، لو مات الشغف فى داخلى، ماذا لو أرتفعت العمارة التي أمام بيتي كما أرتفع بقيتهم من باقى الجوانب، هل ستظل قطرات الشمس تخترق أغصان العنب لتسقط على وجهي وأنا نائم كما عودتني جدتي فى أيام الشتاء لإستمتاع بدفء الشمس، هل ستخنقني الحياة كما خنقتني أفكاري فى غرفتي، هل سيجئ يوماً لن أستطع فيه المشي والتيه فى الشوارع، هل ستفقدني الطرقات التي تسكعت عليها أم أني مجرد عابر سبيل مر ولم يترك أي أثر.. أفكر ماذا أيضاً لو جمعتنا الحياة، هل ستغدو الحياة بريقاً وجمالاً لا ينفذ أم أنها موجة ككل الموجات تجئ ثم تنطفئ، هل ينتصر الحب، هل تتحقق الوعود، هل تنتصر الحياة أم أن كل شئ سيغدو رماداً.. هل يستطيع قلبي أن يقنع عقلي بحبكِ ولو ليوم واحد، لأستعيد إشراقي وأملي من جديد، أم تنتصر التقاليد البالية التى وضعها مجموعة من الحمقى.. 

الأقصر 2019

طلبت مني أن أصحبها فى رحلتي، فوافقت مُرحباً بصحبتها.. طلبت مني تصويرها عبر تلك الممرات، وبين هذه الأعمدة الشامخة، والمسلات، والتماثيل، وعند بحيرتها المقدسة، وهرمها المدرج، ومقابر الملوك، وسلطانهم المقيم، وعند معشوقتها الفريدة حتشبسوت.. تحت شمس أكتوبر المترددة كانت تضع على رأسها قبعة بحواف مزخرفة، تضع يدها عليها فى معظم الصور.. تسبقني فى كل خطوة كطفلة، تلتفت وتضحك، ماذا كانت تحب فى هذه الحجارة، وأنا كالملهوف ورائها أسعى، تختفي ثم تظهر، تتكلم وتُشرق، تسبقني وتقول أنظر إلى هذه القطعة الفريدة ليس لها مثيل فى العالم، هذه ليست فى مكانها الأصلي، هذه البحيرة تشفي الأسقام، هناك عبر هذه السراديب سرق اللصوص أعظم ما أبدعه الفنانون والمهندسون، هنا تولى العرش ابن الفرعون المارق، هذا الجعران تميمة الحظ عندهم، هذه المسلة مكتوب عليها تاريخ تحتمس الثالث، مقبرة توت، وبيت العزيز كارتر.. صورها فارغة، كيف هربت من صوري، من عدستي التي رصدتها مبتسمة تحت حرارة الشمس، هل يوجد سبب واحد لجعل هذا ممكن الحدوث.. هل كانت وهم أسعى خلفه عبر كل تلك الأيام التي قضيتها هناك، ماذا عن كل هذه الأحاديث الطويلة عن الحضارة والفن والجمال والدين، هل كنت أحدثها بحق، أم أني كنت أُحدث نفسي، فى تيه معاها، هل كانت خيال يعبث بعقلي.. لقد كانت هناك، كنت أراها بيقين، فى أماكنها الأثيرة، فى خفتها وإبتسامتها.. كنت أسمع صوتها بوضوح عبر الردهات، بصدى داخل الحجرات..


لقد حظيت فى العامين السابقين بكمية حوادث ومشاعر، قد أصفها بأنها حياة بمفردها بعد حياة وربما أبالغ، ولكني رأيت معها الكثير والكثير، وركضت ركضاً مبرحاً.. لم أعد طفلاً، وهذه حقيقة قاسية لو تعمل..
لقد كنت دوماً أشعر بالنقيضين معاً، البرد والحر، الحب والكره، الأمل واليأس، الحلم والواقع، ثنائيات لم تفرغ منها حياتي.. لم تتركني الحياة إلا وجذبتني لأشياء ثم وجدتها سراب..
لا أستطيع وصف ماذا يحدث بشكل حقيقي وبدون ما أكون مبالغاً أو تافهاً.. لا أستطيع التوازن بين أي شئ.. الصورة تزداد غموضاً وتعقيداً.. لا أستطيع الإجابة عن الأسئلة، ولا حتى تمييزها عن بعضها.. كل الخيوط متداخلة ومتشابكة كخيوط عنكبوت..

أنا غير قادر على الحركة، يدي ليست مقيدة ولا قدماي، وأنا غير قادر على الحركة..
قلبي يئن وعقلي يتألم، أنا غير قادر على الحركة..
إزدادت الصورة خفوتاً والإضاءة إنطفأت، أنا غير قادر على الحركة..
ضاق الحيز المحيط وكثرت كمائن وحواجز وجدران، أنا غير قادر على الحركة..
تركتني حبيبتي ورحلت، بعدما وعدت بالبقاء، وعدت باللقاء، أنا غير قادر على الحركة..
تقيأت روحي بالأمس فما عادت تنظر لي الحياة، أنا غير قادر على الحركة..

لا أريد أن أكون مبالغاً فى كلامي، ولكني أيضاً أود وأرغب بشدة فى قول حقيقة عيشتها أو عايشتها قبل أن أترك عشرينات عمري.. لأني كأي شاب يبدأ حياته بعد أن ينهي دراسته، بأن يعمل ويُأسس بيتاً، مبالغة، بأن يعمل ويشتري سكناً صغيراً، مبالغة، بأن يعمل ويؤجر سكناً صغيراً ويتزوج وينجب أطفالاً ويعمل وينتقل من عمل إلى لآخر ويجرى من هنا إلى هناك ثم يرجع من هناك إلى هناك آخر وهكذا دواليك إلى أن يجد نفسه لا يستطيع الحركة ثم يموت، مبالغة، هكذا ببساطة..

لقد درست ولم تنفعني دراستي، تخرجت ولم أجد عملاً، لم أجد سكناً ملائماً حتى الآن، لا أريد أن أترك أبي ولا أمي وهما فى سن كبيرة، لم أجد مالاً كي أوفر من خلاله حياة كريمة -هكذا تُقال- لم أجد تلك الأشياء البسيطة التى كنت أُمني نفسي بأن تحدث يوماً ما، لقد استعجلت طفولتي بأن ترحل كي يصير لي ما أريد، كي أجد نفسي وعملي وتعليمي ومالي، أن أجد حريتي فى سكني الخاص، وأجد روحي على رفوف مكتبة أملئها بالكتب. تنتهي عشريناتي ولم أجد عملاً ولا مالاً ولا سكناً.. لم أجد لا نفسي ولا روحي، ولا عرفت ميول قلبي، ومازال عقلي يملئه الألم.. أعيش عشريناتي وأنا مشتت تائه على طريق ضال، لا يملئه غير الألم، والغضب والسخط، وربما الإنكار والجحود..

قرأت بالأمس إعلاناً بالجريدة الرسمية للدولة أن وزارة الإسكان تطرح وحدات إسكان إجتماعي لمتوسطي الدخل، ورغم ذلك يجب عليك إن كنت من ضمن متوسطي الدخل أن تجد فى جيبك ثمانون ألفاً نقداً لجدية الحجز ثم تقسط الباقى على سنوات طويلة تبقى فيها مقيداً إلزامياً بأقساط تصل نسبة العائد الإستثماري بها ل8% من المبلغ الكلى الذى قد لمليون وستمائة ألفاً أو يزيد، لمتوسطي الدخل!! ومتوسطي الدخل هؤلاء يتراوح دخلهم الشهري من ثلاثة آلاف حتى ستة آلاف..

لم أنظر للحياة بهذه النظرة المادية أبداً، ولكنها أيضاً الحياة هى من تعلمنا أن ننظر لها بهذه الطريقة، كعاهرة أو ساقطة تعطيها المال لتعطي لك جسدها غالباً.. لتنتهي ثلاثينات أو أربعينات عمري، ماذا سيحدث؟ 


تعبت وأنا أنظر فى وجهات الحياة وفنونها، لأختار طريقي وما يناسب قلبي.. ويبدو أني فُتنت كمن أعتاد النظر إلى النساء، كنت أريد أن أعرف نفسي وما أحب، ولكن الحياة لم تكن بتلك البساطة لتنظر إلى إمرأة جميلة وتقع فى حبها من أول نظرة نحوها.. فعلت الكثير كي أجد ذاتي وطريقي ومساري العملي بدون فائدة تذكر، اللهم إلا وجع القلب وكره الحياة.. تحملت الكثير من الرفض عبر حياتي التى عيشتها، وما أكثر الألم فى رأسي، ألمي الذى كان يجلس فى رأسي بدأ يتحرك، ينتشر ويتفشى.. 

عاجز عن رؤية الطريق، كمن تضربه الشمس فى عينه فتعميه، جُل ما أخشاه هنا هو العمر، ماذا لو سار ولم أسر، مر ولم أمر، خطفه الطير قبل أن يخطفني الموت.. 

ألتزمت بقيود، ثقيلة، ولا أعرف لماذا؟ قيود لم أتبينها حتى، لم أعرف ماهيتها، أجبرت عليها منذ صغري، علموني أن هناك طريق واحد على الكل أن يسير عليه، هكذا هى الحياة، ذلك التعبير الأكثر صفاقة، ولكني كبرت وبدأ الشيب يغزو رأسي لأكتشف أن هناك طرق كثيرة، أكثر بكثير مما يتصور المرء، وذلك الطريق الوحيد هو ما استعبدونا به، دوامة وهمية من متطلبات هامشية لتصبح هي حياتنا..

أخاف أن أترك مساري، أخشى من ضياع أعوام سابقة قضيتها فيه، لأكتشف أني سرت فى الطريق الخطأ، أخشي من ندم، وألم، وفوات فرص وعمر ضائع، وشيخوخة طويلة، أخاف أن أبدأ من جديد، لأكتشف وأعيد نفس الأمر مرة ثانية، وربما أكثر، حتى أضيع كما ضاعت حياتي..

فقدت القدرة على مجارة الاحداث، فقدت قدرتي على التعلم والعمل، فقدت قدرتي على التنفس بانتظام، على التفكير، على الهدوء الداخلي، فقدت قدرتي على الحلم..

انقلب على وجهه خسر الدنيا والأخرة..

سري للغاية ..

ابتسمت المرأة وهي تنظر لي بود لم يسبق لغريب أن أعطاه لي، تأكدت أني لا أحمل أي شئ معدني ولا حتى أزرار قميصي، الذي كان يحمل اللون البنفسجي آنذاك، وأظن أنها نسيت أن تعطيني سدادات الأذن، ليست امرأة بل فتاة صغيرة وأظن أنها توقعت مني أن أغازلها ولكني خذلتها. دخلت إلى الجهاز الذى يبدو كنصف كرة تخرج منها طاولة مستطيلة، كفم إنسان يُخرج لسانه سخريةً، استلقيت بظهري فوق الطاولة، ثم سحبتني للداخل وكأنها تلتهمني.. جهاز الرنين المغناطيسي الذى أراه لأول مرة، يُصدر ذبذبات من نوع خاص، كنت أشعر بها فى رأسي، تتخلخل داخل الأعصاب والخلايا، أسمع الصوت والصدى، فالفراغ داخل رأسي واسع، ويسكنه الألم، وكنت أبحث عن هذا الشئ الغريب الذى يسكن هذا الفراغ، قال طبيبي المعالج بثقة أن هذا الجهاز الوحيد المناط به إكتشاف الخبايا التي يحملها العقل، صدقته، وصدقه عقلي، عقلي المتمرد الوحيد، كنت أشعر بأنه يحرك أشعة الرنين حسب ما يريد، وليس كما درست أن الخطوط تسير مستقيمة تخترق وتتداخل، ولكنها أبداً لا تنثني أو تتمايل..

لقد فكرت في كل شئ، وأنا أجلس على الطاولة البيضاء، قالوا أني مكثت أكثر من ثلث الساعة، ولكني شعرت بها أياماً طويلة، فكرت فى أبي الجالس بالخارج ينتظرني، فكرت فى أمي وحبيبتي الضائعة، فكرت فى مستقبلي ودراستي، فى أحلامي الضائعة، قلبي التائه وجسدي المتعب، فى سنوات الوحدة والأمل ومحاولة التأقلم، تذكرت ثورة ضائعة وشهداء مجزرة كانوا أطفالاً يحلمون مثلي، أحداث لم يمضي عليها بضع شهور، تجمعت كل الصور والروايات فى ذهني، لأكون منها صورة واحدة لم تختفي منه حتى الآن، تذكرت طفولتي، وكل التفاصيل الصغيرة التي أحملها وتراكمت عليها السنون، كل شئ بدى ناصعاً براقاً لا يخفى منه شئ..
عمل عقلي بمثالية لم أعهدها عنه، وكأن الموجات كانت تحمل مخدراً للألم، أو محفزاً من نوع خاص..

لم يختلف القيد الذي قيدت به على الجهاز عن قيد الحياة شيئاً إلا القليل، فالفرق أن قيد الجهاز تركني أفكر، ترك لعقلي إمكانية تصور الأشياء والتعمق فيها، على عكس قيد الحياة الذي أضاعني وأضاع عقلي ووصمه بالتشتت وضِيق الأفق وضَيق عليَّ مُتنفسي الوحيد وهي أحلامي، كتم الأنفاس الذى يجعل من الوطن منفى، ومن السماء الزرقاء جدران قاسية سوداء..
لم يكن الألم يشغلني، سوى ذلك الساكن في رأسي، كان يملئها بحيث لا يترك فى أمد عقلي الواسع مكاناً، يسكنه وكأنه حق مكتسب له، يتحرك بحرية ويُضيق على أفكاري الحركة، يُحجمها ويمنعها من حريتها وفضولها الغريزي..

أصوات غاضبة ساخطة فى عقلى، تدمر خلاياه، وهو بالكاد مازال قادر على الحياة، على رغم نتائج الفحص المغناطيسي التى أظهرت أن لا شئ داخل تلك التجاويف، فلم تظهر الأفكار ولا المشاعر وأختفى الألم.. عن ماذا كانت تبحث إن لم تلقى هؤلاء وخاصة الألم، إنه موجود، أنا أشعر به..

ليس للحرب وجه أنثوي

أحسست بانهزامية شديدة بعد قراءة كتاب ليس للحرب وجه أنثوي، ومازلت فى عراك مع نفسي، وأشعر بثقل فى جسدي وألم فى رأسي، وكأني حاربت وانهزمت ورأيت الموت معهم، ولكني لم أشعر بالنصر مثلهم.. أشعر بالخوف، لامست قلبي تلك الحكايات الأنثوية عن الحرب.. شاهدت سابقاً أبكاليبس الحرب العالمية الثانية، لم تكن دموعي تفيض مثلما فعلت تلك الحيوات الأنثوية، شاهدته منذ ما يتخطى العشر سنوات، لم ألاحظ وجود إناث وسط الجنود، الجنود مجهولون دائماً، وحدهم القادة مرفوعة روؤسهم، فخوريين بحربهم، بخططهم وإنتصاراتهم.. تسحرك الأنثي بتعابيرها، برغبتها فى الحياة والحب، بضعف جسدها وقوة إرادتها، بدموعها وحنانها الكبير..

هناك بُعد أخر دائماً ما أفكر فيه منذ أيام مراهقتي، وهو فترات الحياة، بمعنى أني أرى الحياة على أنها فترات متقطعة، وليست متصلة إلا فى ذكرياتنا، وخاصة مرحلة الشباب المبكرة، ودليلي على ذلك أو ما أقنع به نفسي، حديث سبعة يظلهم الله فى ظله، منهم شاب نشأ في طاعة الله، وعكس ذلك بالطبع.. ف بالنسبة لهؤلاء الفتيات اللواتي شاركن فى الحرب أربعة أعوام وأعمارهم لا تتجاوز العشرين كانت تلك مرحلة/فترة فى حياتهن، بعدها تغيرت الحياة بالنسبة لهن تغييراً جذرياً ولم تبقى إلا ذكرياتهن.. وأقيس على ذلك أشياء كثيرة، فترة حدث عابر، رغم سخافة الفكرة، ولكني أكن لها إيمان من نوع ما..

هناك حديث -ضعيف- يقول “إن الله يعجب لشاب ليس له صبوة”.. والصبوة فى اللغة الفُتوة، وله صبوة أي له ميل إلى اللهو.. بمعنى أنه مقيم على طاعة الله، بعيد عن شهوات الشباب.. فنحن نتغير ونتقلب، ولكن الأهم أن تكون كل فتراتنا على صراط الله المستقيم..

عزيزتي.. الحياة أجبرتني على السير عكس ما كنت أرغب، عكس إرادتي، هبة الله لي.. لسوف تكون الحياة خصيمتي يوم القيامة، لقد كسرت قلبي..  تعرفين ما...